بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 16 أبريل 2025

صديقي الأستاذ توفيق الحكيم

 

مجلة الرسالة - العدد 799
اليهودية=الصهيونية=الشيوعية

صديقي الأستاذ توفيق 

 

 الحكيم

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1948

 للأستاذ نقولا الحداد

سألني الأستاذ حكمت على من بغداد عما إذا كان ثمة فرق بين اليهودية والصهيونية. . . اجل يا سيدي، الصهيونية يهودي واليهودي صهيوني ولا فرق، وإنما استنبطوا كلمة صهيونية لقوم أفاقين جاءوا من الآفاق إلى فلسطين لكي ينشئوا دولة صهيونية، أي يهودية، أي إسرائيلية. وكلمة صهيونية في الأصل كانت اسما لجبل أو تل في الجنوب الغربي من مدينة أورشليم (القدس) ثم أطلقت على كل أورشليم عاصمة فلسطين.

وإنشاء مملكة يهودية أو إسرائيلية هو أمنية كل يهودي سواء كان ساميا أم آريا. . . لما حكم فلسطين الولاة الرومانيون وخربوا هيكلها العظيم سنة 70 ميلادية تشتت اليهود في العالم. والآن يحل محل ذلك الهيكل الذي لم يبق منه طل، جامع قبة الصخرة. ولم يبق لليهود في أورشليم إلا جدار يبكون أمامه هيكلهم وماضيهم.

من ذلك الزمان إلى اليوم يتوق اليهود إلى مملكة فلسطين وإلى بناء هيكلهم فيها من جديد. أينما يكن اليهود يتمنوا هذه الأمنية ويبذلوا كل غال ورخيص في سبيلها. ولا يغرنك قول اليهودي إنه ليس صهيونيا؛ فإنما يقوله للتمويه فقط، إذ يخشى أن يتهم بأنه يخالف قوانين البلاد العربية في تحريم إرسال مال إلى الصهيونية في تل أبيب. وهم يرسلون الأموال من أمريكا جهارا ومن البلاد العربية سرا لهذا الغرض. وشفيق عدس الذي شنق في بغداد مثل من أمثلة الخونة الذين يهربون الأموال والعتاد إلى يهود فلسطين. فأينما رأيت يهوديا فقل إنه صهيوني، وإنه يتحين الفرص لكي يعمل للصهيونية.

بقي على العرب أن يعلموا - إذا كان الإنكليز والأمريكان لا يعلمون - أن الصهيونية أخت الشيوعية بل أمها، لأن اليهود الذين قبلوا الحكم القيصري كانوا كلهم يهوذا ما عدا لينين. ولما أنشئوا دولة البلشفية جحدوا الدين وطردوا الأكليروس النصارى واليهود والمسلمين من كنائسهم وجوامعهم وصاروا كلهم يدينون بدين كارل ماركس الاشتراكي، فلم تعد تفرق بين اليهودي وغير اليهودي، ولم تع د تعرف من هو اليهودي ومن هو المسلم. ولكن الذي كان في القلب بقى في القلب. وبقى اليهود يتحينون الفرصة لكي يملكوا روسيا ولو بصفة كونها اشتراكية. ولكن ستالين فطن لمؤامرتهم التي كانوا يدبرونها لكي يقلبوا سلطته فأب كثيرين منهم. ومن يعرفهم فلعل جروميكو وفنشنسكي منهم.

قد يظن بعض الناس أن اليهود لا يمكن أن يكونوا اشتراكيين أو شيوعيين لأنهم رأسماليون، والشيوعية نقيض الرأسمالية؛ ولكن فليعلم من لم يعلم أن اليهود كالحرباء يتلونون بكل لون لكي يصلوا إلى أغراضهم. فيكن اليهودي أن يكون أرستقراطيا أو ديمقراطيا ويهوديا أو مسلما أو نصرانيا. يمكن أن يكون أي شئ إذا كان يظفر بالسيطرة؛ فإذا كان اليهود اشتراكيين ثم قبضوا على زمام الحكم الاشتراكي أو الشيوعي العالمي، أفلا تصبح أموال العالم كلها في أيديهم؟ - هذا ما يسعون إليه الآن، وسيرى ستالين أو خلف ستالين أطال الله بقاءه أن الشيوعية صارت في قبضة الصهيونية. وحينئذ تصبح موسكو تحت سيطرة تل أبيب تتلقى أوامرها منها؛ وحينئذ تصبح أوربا كلها وبعدها أمريكا شيوعية، وكلها واقعة تحت سيطرة موسكو، وبالتالي تحت سيطرة تل أبيب. وكل آت قريب.

مجلة الرسالة - العدد 22
الصهيونية

المقبرة البحرية

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 12 - 1933




نشأتها وتطورها

1. قبل عهد بلفور

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لفتت حوادث فلسطين الأخيرة أنظار العالم مرة أخرى إلى ذلك النظام السياسي الاجتماعي الغريب الذي فرض على فلسطين تحقيقا لمشاريع السياسة الاستعمارية. ففي فلسطين أمة عربية تعيش في ذلك الوطن منذ آماد بعيدة. ولكنها تجد اليوم نفسها أمام خطر داهم على كيانها القومي، وترى اليهودية تمكن من غزو هذا الوطن بطريقة منظمة مستمرة، تنفيذا لعهد قطعته بريطانيا العظمى على نفسها إبان الحرب الكبرى، بأن تعاون على إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.

وفكرة الوطن القومي اليهودي قديمة ترجع إلى العصور الوسطى. ولكنها لم تكن في تلك العصور التي كانت بالنسبة لليهودية (عصرها الحديدي) أو عصر الاضطهاد الشنيع أكثر من مثل أعلى أو أمنية مقدسة غامضة. ولكنها منذ القرن الثامن عشر تغدو نظرة سياسية اجتماعية ترمى إلى غايات عملية. وكان أقطاب اليهودية في ذلك العصر وعلى رأسهم رجال ممتازون مثل مندلزون ولسنج يرون أن تتخذ القومية اليهودية صيغة محلية، فيغدو اليهود من أبناء البلد الذي استوطنوه مع احتفاظهم بتراثهم الروجي. ولكن هذه القومية المعتدلة التي أملى بها جو التسامح الذي نعمت به اليهودية يومئذ لم تلق كبير تأييد، ولم يطل أمدها، واستمرت الفكرة القديمة على قوتها وتأثلها. ومنذ أوائل القرن التاسع عشر نجد يهود إنكلترا يعملون على تقويتها وتلمس السبل لتنفيذها بالدعوة إلى إحياء التراث اليهودي وإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين. ومن ذلك الحين تتجه اليهودية ببصرها إلى فلسطين؛ وتتكرر جهودها لإقناع السياسة البريطانية بإمكان قيام وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وأن قيامه يغدو ضمانا قويا لتأمين طريق الهند البري وهنا تتخذ فكرة القومية اليهودية صبغة سياسية واضحة؛ وتبدو الفكرة الصهيونية في شكلها الحديث. والصهيونية هي القومية اليهودية. اشتقت من (سيون) العبرية أو صهيون الأكمة أو المعقل. وقد أطلقت أولاً على موقع التل الذي بني عليه الهيكل ثم أطلقت على بيت المقدس؛ ثم على الأمة اليهودية كلها، وتراثها الروحي؛ وأصبح معناها الحديث عود القومية اليهودية واستردادها لتراثها الغابر. وبهذا تفهم الصهيونية في عصرنا ولهذا تعمل.

وإذا فالصهيونية الحديثة ترجع إلى أواسط القرن التاسع عشر. وفي هذا الحين نفسه تلقى الصهيونية مادتها وقوتها: ذلك أن خصومة السامية أو نزعة التعصب ضد اليهود قد اضطرمت يومئذ بفورة جديدة في معظم الدول الأوربية، وأسفرت عن مذابح مروعة في روسيا والمجر. وعصفت باليهود في ألمانيا ثم عصفت بهم في فرنسا حيث بلغت الحركة ذروتها في قضية دريفوس الشهرية (سنة 1896).

ورأت اليهودية أنها رغم حصولها على الحقوق المدنية والسياسية في معظم الدول الغربية، مازالت عرضة للبغض القديم الذي أصبح تقليداً راسخا في المجتمعات الغربية. عندئذ بدت فكرة الوطن القومي اليهودي ضرورة يجب تحقيقها لخير اليهودية وسلامها. وأخذ أقطاب اليهودية على إذاعة الفكرة واتخاذ الخطوات العملية الأولى في سبيل تحقيقها. فألفت جمعية لإنشاء المستعمرات اليهودية وزودت بالمال. وبدأت مساعي الماليين اليهود لدى الباب العالي لإنشاء هذه المستعمرات في فلسطين. ثم لقيت الفكرة روحها المضطرم في كاتب يهودي نمسوي فتى هو تيودور هرتسل. وقد ولد هرتسل ببودابست سنة 1860 وظهر في الصحافة والتأليف المسرحي وظهر بالأخص بكتاباته القوية الملتهبة في سبيل القضية اليهودية. وكان هرتسل يرى أن الوطن القومي ضرورة لليهودية لا أمنية فقط، وفي سنة 1896 أخرج رسالته الشهيرة (الدولة اليهودية) يعرض فيها فكرة الوطن القومي عرضا قوياً، ويرى أن يتخذ هذا الوطن صورة دولة يهودية في فلسطين تكون تحت سيادة الباب العالي وتؤدي له الجزية وتكون البقاع المقدسة منطقة مستقلة ذات نظام خاص، فكان لدعوته وقع عظيم في اليهودية بأسرها، وأيده أقطاب المفكرين اليهود مثل مكس نورداو وإسرائيل زنجويل وغيرهما. وكانت اليهودية على إثر ما عانته من اضطهاد الخصومة السامية في معظم البلاد تتحفز يومئذ للذود عن نفسها، وتستجمع جهودها للقيام بحركة إيجابية منتجة. وسرعان ما انتظمت هذه الحركة تحت لواء هرتسل وزعامته، وفي أغسطس سنة 1897 عقد مؤتمر يهودي عام في بازل (سويسرا) برآسة هرتسل وفيه وضع برنامج الصهيونية الرسمي وعرفت غايتها ووسائلها على النحو الآتي:

(تسعى الصهيونية لتحقق للشعب اليهودي إنشاء وطن في فلسطين، يتمتع بالضمانات التي قررها القانون العام، لكي يمكن تحقيق هذه الغاية، يرى المؤتمر الوسائل الآتية:

1. أن يشجع استعمار فلسطين بواسطة الزراع والعمال والصناع التشجيع الواجب.

2. أن ينظم العالم اليهودي بأسره وأن يحشد في المجتمعات المحلية أو العامة طبقا لقوانين البلاد المختلفة.

3. أن تقوى لدى اليهود عواطف الكرامة القومية والاعتزاز بالجنس.

4. أن تبذل المساعي التمهيدية اللازمة للحصول على التصريحات الحكومية الضرورية لتحقيق غاية الصهيونية.)

ثم توالت المؤتمرات الصهيونية في كل عام وبدأت مساعي اليهودية العملية واتصل هرتسل بالباب العالي، فاظهر نحو الفكرة ميلا في البداية باعتقاد أن تأييدها يكسبه نفوذا جديدا، حاول أن يجعل من ذلك وسيلة لحل المسألة الأرضية بشروط عرضها على اليهود الإنكليز ولكنه أخفق في هذه المحاولة. وزار هرتسل السلطان عبد الحميد في سنتي 1901و 1902 فآنس منه إعراضا وأخفق في سعيه. فاتجه هرتسل إلى إنجلترا وعرض أن ينشأ الوطن القومي اليهودي في أية منطقة من البلاد الواقعة تحت النفوذ البريطاني، واقترحت خلال ذلك منطقة سيناء المصرية ثم منطقة في الشرق افريقا البريطاني. ولكن أغلبية المؤتمر الصهيوني (سنة 1903) رفضت فكرة التحول عن فلسطين إلى غيرها وعدتها تراجعا وهزيمة للفكرة القومية الأهلية، ثم توفي هرتسل سنة 1904 في عنفوان قوته وجهوده فكانت وفاته ضربة قوية للحركة الصهيونية، ولم تجد الحركة من بعده مدى أعوام من يقودها بمثل قوته ونفوذه. وتزعمها مدى حين فولفزون المالي الألماني، وإسرائيل زنجويل الكاتب الإنكليزي، وجددت المساعي لدى الباب العالي، ولكن اضطراب الأحوال السياسية في تركيا حال دون كل مسعى. وجددت المساعي لدى إنكلترا. واقترحت أثناء ذلك برقة أو الجزيرة في العراق لتكون مركزا، للوطن القومي، ولكن هذه المساعي أخفقت أيضا ففت هذا الفشل المتكرر في عضد الصهيونية وخبت حماستها، فترت جهودها حنى نشوب الحرب الكبرى.

وفي أثناء الحرب سعت اليهودية إلى غايتها بجد ومثابرة، وقدمت إلى الحلفاء كل معونة ممكنة فامدتها بالقروض المالية، والفت فرق يهودية عسكرية تحارب إلى جانبهم. وتولى الزعماء اليهود: لورد روتشيلد والدكتور ويزمان ومسيو سوكولوف تنظيم هذه الحركة والسعي لدى دول الحلفاء وبخاصة إنجلترا في تحقيق مشروع الوطن القومي، وأسدى الدكتور ويزمان، وهو علامة كيمائي ومخترع بارع إلى إنجلترا أثناء الحرب خدمات جلية، بتولي المباحث الكيميائية في المعامل الإنجليزية: واختراع مادة جديدة للمفرقعات القوية. وأسندت إليه منذ سنة 1917 رآسة الهيئة الصهيونية العالمية. وكانت إنجلترا تجد يومئذ هجومها على فلسطين، وأمل اليهودية يبدو على وشك التحقيق. وكانت فرنسا أول من تقدم من الحلفاء لتأييد مشروع الوطن القومي اليهودي بصفة رسمية: ففي يونيه سنة 1917 وجه مسيو كامبون وزير الخارجية الفرنسية إلى مسيو سوكولوف رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية يؤكد فيه عطف الحكومة الفرنسية على القضية اليهودية والوطن القومي، وفي 2 نوفمبر سنة 1917 أصدرت الحكومة البريطانية عهدها الشهير بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وعرف هذا العهد باسم اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية يومئذ؛ وتلى في مجلس العموم البريطاني في النصف الثاني من نوفمبر في خطاب رسمي وجه إلى اللورد روتشيلد كبير اليهودية الإنجليزية وهذا نصه:

عزيزي اللورد روتشيلد: يسرني أعظم السرور أن أوجه إليك باسم الحكومة البريطانية التصريح الآتي بالعطف على الأماني الصهيونية اليهودية وهو تصريح عرض على الحكومة البريطانية وأقرته وهو:

(أن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين: وسوف تبذل ما في وسعها لتحقيق هذه الغاية. ومن المفهوم أنه لن يعمل شيء مما قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهدوية الموجودة في فلسطين ولا بالحقوق أو المركز السياسي التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر)

648

مجلة الرسالة/العدد 648/فلسطين بين العرب والصهيونية

مجلة الرسالة/العدد 648

مجلة الرسالة - العدد 648
فلسطين بين العرب والصهيونية

في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1945



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

دخلت قضية فلسطين في مرحلة جديدة، أو كرت راجعة، على الأصح، إلى مرحلة قديمة. فما هذه بالمرة الأولى التي تؤلف فيها لجنة تحقيق، تبحث وتدرس وتقترح، وقد كان المأمول بعد أن تعددت اللجان، وصارت تقاريرها أكواماً أو تلالا، وصدر الكتاب الأبيض قبيل الحرب. أن لا يعاد فتح الباب على مصراعيه هذا الفتح التام كأنما هي مشكلة طارئة لا عهد لأحد بها ولم يسبق لبريطانيا نظر فيها وتدبر ودرس لها. وإنه لأمر محزن ولا شك أن يتكرر هذا كل بضعة أعوام وإن كان لا جديد هناك سوى أن الصهيونيين ضاعفوا نشاطهم ولجوا في العنف والعدوان وأغرقوا حتى وجب أن يحرموا كل حرمان. فإنه إذا كان هذا مبلغ استخفافهم بدولة قوية المراس شديدة البأس مثل بريطانيا، فمن ذا الذي يستطيع أن يأمن شرهم إذا صارت لهم - لا أذن الله - في فلسطين دولة خالصة لهم؟ أليست الدولة العربية المجاورة لفلسطين على حق جلى في مقاومتها لقيام هذه الدولة الخطرة؟

ويخطئ من يظن أن الصهيونيين تدرجوا في مطالبهم وتوسعوا فيها شيئاً فشيئاً، أو أنهم كانوا يخفون غايتهم في البداية، أو أن أطماعهم تفاقمت على الأيام. فليس مثل هذا الظن بصحيح، وتاريخ مساعيهم ينقضه. ولست أنوي أن أورد هذا التاريخ الطويل فما يتسع له هذا المقام، ولكني أذكر على سبيل التمثيل أن بريطانيا كانت قد عرضت على الصهيونيين في سنة 1903 أن تسكنهم أفريقيا الشرقية فأبوا هذا كل الإباء، وروت مترجمة اللورد بلفور - صاحب الوعد المشهور - أنه سأل الدكتور وايزمن (وهو بولندي الأصل) في سنة 1905 عن السبب في رفض الصهيونيين أن يرحلوا إلى أفريقية الشرقية، فكان رد الدكتور وايزمن أن سأل بلفور:

(هل تقبل باريس بديلا من لندن؟)

فقال بلفور: (ولكن لندن بلدي؟)

قال وايزمن: (وكذلك القدس!)

وفي سنة 1915 اقترح الصهيونيون على الحكومة البريطانية أن تعطيهم فلسطين على أ تكون تحت الحماية البريطانية، ولم تكن الحرب قد دارت دائرتها على الترك، وكان الإنجليز من ناحية أخرى يشفقون أن يأخذوا بهذا الاقتراح مخافة أن يغضب فرنسا ويثير أطماع الدول الأخرى. فكتب الدكتور وايزمن إلى اللورد بلفور يقول له ما معناها إنه كانت بريطانيا لا تطمئن إلى وجود دولة غيرها في فلسطين، ولا تريد أن تبسط عليها حمايتها، فإنها ستضطر إلى اتخاذ الحيطة خارج فلسطين، وهذا الاحتياط ليس أيسر كلفة من تولى الحماية. ومن أجل هذا يقترح الدكتور وايزمن أن يستولي اليهود على فلسطين فيقوموا لبريطانيا مقام الحارس!

فالغاية لم تكن خافية على أحد، ولا كانت مكتومة أو مجهولة.

وينبغي أن يقال هنا، إن هذه المباحثات بين الإنجليز والصهيونيين كانت تدور في الوقت الذي كان السير هنري ماكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر في أثناء الحرب العالمية الأولى بكاتب المغفور له الملك حسين (وكان لا يزال الشريف حسين) بمكة. وقد انتهت المكاتبات بينهما بأن تعهدت بريطانيا بمساعدة العرب على الاستقلال والاعتراف لهم به من حدود تركيا إلى المحيط الهندي، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسط والأحمر إلى حدود إيران والخليج الفارسي، واستثنت بريطانيا ساحل لبنان إرضاء لفرنسا. ولكن فلسطين لم تكن مستثناة، بل كانت داخله في البلاد التي تعهدت بريطانيا بالاعتراف باستقلال العرب بها ومساعدتهم على الفوز به. وكان ذلك كله في سنة 1915 أيضاً وهذه المكاتبات التي انتهت إلى الإتقان، وقام العرب بثورتهم المشهورة على أثرها، تعد معاهدة بلا مراء

ويعلل بعض الإنجليز هذا التناقض في سياسية بريطانيا بأن وزراء إنجلترا كان بعضهم لا يدري بما يفعله البعض الآخر. وهو تعليل لا يقبل. لأنهم في الوقت نفسه كانوا يفاضلون الفرنسيين بواسطة لجنة (سايكس - بيكو) المشهورة، وقد جاءت هذه اللجنة الثنائية إلى مصر، وكان المندوب السامي البريطاني في القاهرة على علم بما تصنع وعلى اتصال بها

وهذا التناقض هو الذي اضطر الإنجليز إلى الاكتفاء في وعد بلفور (بإنشاء وطن قومي للصهيونيين) في (فلسطين) والاختصار على ذلك حتى تتهيأ الوسيلة لإجابة الصهيونيين إلى ما يبغون، وهو إنشاء دولة لهم في فلسطين تكون لهم دون العرب. وكل ما قام به الصهيونيون في فلسطين بعلم الإنجليز وموافقتهم لم يكن إلا تمهيداً لقيام هذه الدولة.

وقد تنبه العرب وأدركوا مبلغ الخطر عليهم، ولست أعني عرب فلسطين فانهم كانوا يدركون هذا الخطر من أول يوم، وقد قاوموه وكافحوه بكل ما يدخل في الطاقة، وإنما أعني عرب البلاد الأخرى المحيطة بهم، فقد كان بعضهم أحسن إدراكا للخطر العام، من بعض، وكان كل فر يق منهم في بلاده مشغولا بقضيتها الخاصة، فالشام ولبنان في نضال مع الفرنسيين والعراق ومصر في مع نضال الإنجليز، وفلسطين المجاهدة واقفة وحدها لا تلقى من العون إلا أيسره، ولا يجود عليها أشقاءها إلا بالعطف على الأكثر، وإلا بقليل من العون لا يغني

أما الآن فتعتقد أن الخطر أصبح واضحا لا خفاء به. والفضل لعرب فلسطين في إيقاظ النفوس وتفتيح العيون على ما هو حائق بها، وما هي صائرة إليه لا محالة إذا لم يخف إخوانها إلى نجدتها. كما أن لهم الفضل أيضاً في التنبيه إلى الخطر على البلدان العربية الأخرى فليس يخفى الآن على أحد أن قيام دولة صهيونية في فلسطين يؤدي إلى ما يأتي: -

أولا - تفقد الجامعة العربية قيمتها، لأن فلسطين قلب البلاد العربية وقطب الرحى منها، فإذا ضاعت فلسطين ضعف الأمل في مكان التعاون الوثيق بين البلاد العربية على نحو يثمر الثمرة المنشودة

ثانيا - هذه الدولة الصهيونية تهدد كل بلد عربي مجاور لفلسطين، بل تهدد الشرق الأوسط كله. والصهيونيون أنفسهم يجهرون بأن الشرق الأوسط بأجمعه (مجال حيوي لهم) وسلوكهم قوامه (العنصرية) ولن يكون إلا بابا إلى النزاع

ثالثا - أقامت الصهيونية في فلسطين صناعات قد تثبت أو لا تثبت على المزاحمة الأجنبية، ولكنها على كل حال أضخم شابا وأوسع نطاقا من أن تكون فلسطين وحدها هي المقصودة بها. وقد اغتنم الصهيونيون فرصة الحرب وانقطاع الواردات الأجنبية فغزوا بإنتاجهم الصناعي أسواق الشرق كله، حتى كادت مصنوعاتهم تغرق هذه الأسواق وتقتل الصناعات المحلية. ويلاحظ - على الأقل في مصر - أنهم يسعون لسيطرة على صناعاتنا؛ لشراء أسهم المصانع إذا تيسر لهم ذلك، وبالضغط الذي يتسنى لهم - حتى إذا لم يشتروا الأسهم - بفضل ما لهم من التحكم في الأسواق المالية والتجارية. ومن المشاهد المحسوس الملموس أن كل عمل تجاري له قيمة يخفق إذا لم يكن عن طريقهم، أو لم تكن لهم يد فيه. فإذا قامت لهم دولة في فلسطين، فلا شك في أن مركز الثقل المالي سيكون في تل أبيب، وأن بلاد العرب جميعا ستقع تحت السيطرة الاقتصادية الصهيونية، بل الاستبعاد الاقتصادي

وقد حاولوا أن يسيطروا على صحف مصر ويتحكموا فيها، واتخذوا (الإعلانات) وسيلة إلى ذلك، ولكنهم أخفقوا في هذا، فلجئوا إلى إصدار الصحف وتأليف شركات النشر وفي مرجوهم أن يصعدوا من هذا الباب إلى التحكم في الأقلام، أي في الرأي العام. ولكن أملهم في النجاح هنا، بعد اليقظة العامة، عسير جداً

797

مجلة الرسالة/العدد 797/حكم من أحكام الله!

مجلة الرسالة/العدد 797

مجلة الرسالة - العدد 797
حكم من أحكام الله!

إميل لودفيج

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1948



قضى القضاء العراقي العسكري العادل بالقتل شنقاً وبغرامة مقدارها خمسة ملايين دينار، على فقيدها الربا، وشهيد الخيانة، وعميد الصهيونية، وعهيد الشيوعية، وسليل شيلوك، وصهر شرتوك، ومالك القناطير المقنطرة من العروض والذهب في البصرة، وصاحب الملاين المصدرة من النار والحديد إلى تل أبيب، المأسوف على حياته، الخواجة شفيق عدس؛ لأنه فر بالعراق الذي نشأ ورباه، ثم أمنه ورعاه، ثم رفهه وأغناه فاشترى بما نال من كرمه وأدخر من نعمه ألوف الأطنان من مختلف السلاح والعتاد وأرسلها خفية إلى أوغاد اليهود في فلسطين ليقتلوا بها إخوانه في الوطن وأعوانه على الثراء؛ فكان هذا القضاء وحياً من قضاء الله، وكان هذا الحكم هدياً من ضياء العدل، صفق له الوطنية، واغتبطت به العروبة، وتمنى كل قطر من الأقطار التي منيت باليهودية الماكرة والصهيونية الغادرة أن يحكم كل قاض بمثله على كل يهودي يقف بين يديه وقفة المجرم. واليهودية هي الصهيونية محتجبة أو سافرة، والصهيونية هي الفوضوية محتشمة أو داعرة. إذا عنيت باليهودية أقبح ما تعلم من مساوئ الدناءة والنذالة والإباحية والعصبية، فإنك تعني بالصهيونية أسوأ ما تفهم من معاني للشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية.

أقسم بالله جهد اليمين ما شفى صدري وأرضي وجداني كهذا الحكم الحازم الحاسم. فلعله يوقظ في قضائنا الرءوف الرحيم شعور القسوة العادلة على مجرمي هذا الجنس العجيب الذي تحدى كرامة الإنسانية منذ تحملت اوزاره هذه الدار، وأعتقد أنه هو وحده شعب الله المختار.

لم يبق في مصر ضمير يهودي لم يخن مصر؛ ولم يبق في مصر قلب

يهودي لم يهو إلى إسرائيل؛ ولم يبق في مصر مال (يهودي) لم

يحارب في فلسطين؛ وتقبض حكومتنا القادرة اليقظى على الكفار

الفجار من سلالة يهوذا الذي باع المسيح بدوانق معدودة، وفي نفوسهم

نية الخيانة، وفي أيديهم أداة الجناية، وفي بيوتهم مادة العدوان، فتنزلهم

المعتقل على الرحب والسعة، وتكفل لأموالهم وأهليهم الأمان والدعة.

فإذاعجبت أن ترى اللئيم الممعن في لؤمه يكرم، والظلوم المفحش في

ظلمه يرحم، حاولوا أن يخففوا من عجبك بدعواهم أن لليهودي

المصري رعاية المواطن، ولليهودي الأجنبي حق الإنسان؛ كأنهم

يريدون أن يقولوا إن اليهودي يشارك المصري في وطن، أو يشارك

الآدمي في جنس!!.

لا، يا سادة! إن اليهودي لا يعرف وطناً غير صهيون، ولا يألف جنساً غير يهوذا، فمن يزعم غير ذلك فليسأل كل أمة في الأرض وكل عصر في التاريخ، ماذا جنت اليهودية على الإنسانية. ألم يكن لها في كل ثورة وقود من الدسائس والاضاليل؟ ألم يكن لها في كل عقيدة مفسدة من البدع والأباطيل؟ ألم يكن لها في كل دولة جاسوسية تؤرث العداء والحرب؟ ألم يكن لها في كل أمة أسواق تنشر الغلاء والكرب؟ ألم يكن لها في كل مدينة (حارة) تشيع الفحش والفجر؟ ألم يكن لها في كل صحافة لسان يذيع البذاء والهجر؟

قولوا بلى، كان لهم كل أولئك؛ ولكن الله أوعدهم ووعدنا أن يحبط أعمالهم، ويبطش آمالهم، ويديم إذلالهم، فحققوا وعيد الله ووعده بمثل هذا الحكم، واتقوا يوماً يجوز أن يتولى الشيطان فيه أمر الأرض، فيجعل لهم القضاء عليكم، فيقيموا لكم محاكم كمحاكم التفتيش، ويومئذ لا يجدر بالعربي الأبي أن يعيش!.

أحمد حسن الزيات

مجلة الرسالة - العدد 751
النفوذ اليهودي

حول جدل في الجامعة

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1947




بين الصحف الأميركية والصحف العربية

للأستاذ نقولا الحداد

صوت صاروخ فينا وفي سائر البلاد العربية أن اليهود محتكرو الصحف الأميركية للدعاية الصهيونية. وليس للهيئات العربية سبيل للرد على إفك اليهود وتشنيعهم بالعرب والدعاية لصهينة فلسطين. لأن اليهوديين يسيطرون على الجرائد الأميركية فلا يسمحون لجريدة أن تنشر كلمة حسنة عن العرب ولو بثمن غال.

لا تعتبوا يا قوم على الصحف الأميركية في حين أن بعض صحفنا المصرية ليست أقل خضوعاً لنفوذ اليهود من صحف أميركا ومن يتحقق هذه التهمة يجد أنها حقيقة ناصعة. ومن جملة الحوادث التي تؤيد هذه الحقيقة ما يأتي:

تقدم في حين من الأحيان إلى رئيس تحرير جريدة كبيرة مندوب من قبل هيئة عربية كبرى محترمة بكلمة موجزة ذات شأن عظيم لمصلحة العرب في المسألة الفلسطينية. فوعد الرئيس بنشرها. ولكن مضت بضعة أيام ولم تنشر. فعاتب المندوب رئيس تحرير الجريدة على عدم نشرها. فأجابه أن القيم على إعلانات الجريدة أبى أن تنشر لأن نشرها ليس من مصلحة الجريدة بل هو ضار بها. واعتذر الرئيس بأنه إذا نشر خبراً ضاراً بالجريدة، فالجريدة تضعف ولا تعود تستطيع أن تخدم الأمة والعرب عجباً! لا تستطيع أن تخدم الأمة إذا كان نشر خبر يضرها. وإذا كان الخبر ضرورياً لحياة الأمة وهي لا تنشره فإذاً متى وكيف تخدم الأمة؟

وما لبث المندوب أن عرف أن ذلك القيم على الإعلانات يهودي وحجته أنه إذا نشر الخبر انقطع عن الإعلان في الجريدة. فتأمل.!

حكاية ثانية: منذ نحو سنتين أو أكثر أرسلت إلى إحدى محلاتنا الكبرى مقالاً بعنوان (لمن فلسطين؟) وأثبت فيه بالإسناد التاريخية وغيرها أن اليهود الأجانب الذين يدعون الآن ملكية فلسطين ليسوا من نسل إسرائيل. بل هم أوروبيون تهودوا منذ تشتت الإسرائيليون في آسيا وأوربا فأغروا بعض الوثنيين باليهودية فتهودوا. فهم ليسوا ساميين كما كان هتلر يزعم. بل هم آريون أكثر من هتلر. ولذلك ليس لهم ضلع البتة في فلسطين. بل أ فلسطين لأهلها المقيمين فيها من قبل مرسى إلى اليوم. وقد غيروا ديانتهم من يهود إلى مسيحيين ثم إلى مسلمين حسب تقلبات الحوادث التاريخية والسياسية الخ. هذا كان فحوى المقالة.

ومضت أشهر ولم أر المقالة في المجلة فذهبت إلى إدارة المجلة عاتباً. ولكن سكرتير التحرير قابلني بأنه لا يدري سبب عدم نشرها. وصاحب المجلة كان وتغيباً فلم أتصل به فقلت: هاتها. فتبرم وقال لا أدري إن كنت أجدها.

فبحثنا بين أوراق التحرير. ومن حسن الحظ وجدناها ثم أرستها إلى مجلة أخرى رائجة. ومضت الشهور ولم تنشر فكتبت إلى إدارة التحرير مطالباً بها. ولم أحصل على جواب ففهمت أنها ذهبت في سلة المهملات. ثم علمت أنها لا تنشر لأنها ضد مصلحة اليهود الذين ينشرون إعلانات في المجلة.

ومنذ عهد غير بعيد كتب أديب لإحدى الجرائد اليومية بضعة عشر سطراً يطلب من اليهود الذين في مصر أن يعلنوا شجبهم للصهيونية وبراءتهم منها قولاً وعملاً وأن هذا الشجب من مصلحتهم ما داموا مواطنين لأكثرية ساخطة على الصهيونية فلم تنشر الجريدة هذه النبذة. ولما عاتب ذلك الكاتب رئيس تحريرها قال أن هذه النبذة صعبة ملعونة يعني أنها شبه تهديد لليهود. وهو لا يريد من جريدته لئلا يحرموها إعلاناتهم. فترى أن الجرائد تحت رحمة يهود البلاد بسبب إعلاناتهم.

هذا قليل جداً من كثير جداً من الأخبار المشينة المؤلمة عن سيطرة اليهود في مصر على بعض الجرائد الرائجة والمجلات المنتشرة.

فلماذا نلوم الصحف الأميركية إذا أذعنت لليهود بعدم نشر شيء من مصلحة العرب ولا سيما لأن قضية العرب ليست قضية الأمريكان ولا تهم الشعب الأميركي. ولماذا لا نلوم الصحف العربية التي تراعي خاطر اليهود في قضية العرب والقضية قضيتهم فبالله أهكذا تخدم الصحف العربية شعبها وعروبة قرائها؟ تخدم مصالح اليهود، واليهود يتذرعون بكل وسيلة لامتصاص مالية البلاد العربية والسيطرة على سياستها إلى غير ذلك مما هو معلوم.

لا نجهل أن الصحف في كل العالم تعيش على الإعلانات. وإيراد الإعلانات يعيش على رواج الجرائد، ورواج الجرائد يعيش على إقبال القراء عليها، وهذا الإقبال هو ثمرة جهاد المحررين وإدارة أصحاب الصحف وجهاد عمالها، ومتى تزايد عدد الفراء أو النسخ التي تطبع ارتفعت أجور الإعلانات، وهذه الإيرادات الأخيرة من الإعلانات تستغلها شركة الإعلانات اليهودية التي تتوسط بين المعلنين والجرائد.

لا نجهل هذا، ولكن لا نفهم لماذا تكون الوساطة بين المعلنين والجرائد في يد شركة يهودية تتحكم بالجرائد وأصحابها وأقلامها وعمالها وقرائها أيضاً فلا تسمح بنشر شيء ضد مصلحة الصهيونية أو ليس من مصلحة اليهود. وأصبحت الصحف والأقلام العربية مسخرة لليهود. هذه عبودية لا تطاق، واستخذاء عربي لليهود لا يكاد يصدق.

ولا ندري لماذا لا تكون الشركة الوسيطة بين المعلنين والصحف وطنية بحتة وتكون مكاسبها لمساهمين وطنيين ويكون الكتاب أحراراً فيما يكتبون لمصلحة بلادهم وإخوانهم العرب.

ترى هل فطن الصحفيون لهذا الضرر العظيم من جراء استلام اليهود لزمام الصحافة في البلاد يسيرونها على هواهم؟ أم أنهم فطنوا ولا يبالون؟ ألا يبالون أن يكون مصير القضية العربية وجميع القضايا المخالفة لمصالح اليهود الصهيونيين الخيبة؟

أم أنهم لا يبالون بالمصاب إلا إن وقع، ولا يبادرن إلى تدارك الخطر، ألا متى أبرق وأرعد، وحينذاك لا حين تداركه.

من المدهشات أن يتولى أمر الدعايات بالإعلانات والمقالات والأخبار في الصحافة العربية لأجل القضية الفلسطينية يهود هم أعداء العروبة الألداء.

أما وجد بين العرب أناس لهم ذكاء اليهود وماليته كمالية اليهود وحيلة كحيلة اليهود لكي يحلوا محل اليهود في هذه السيطرة على أقلام كتابنا وصحافتنا وإدارة الدعاية عندنا.

لماذا لا ينبري أناس ممن يفهمون فن الدعاية ويؤلفون شركة كبرى لتولي هذا العمل المنتج أي الوساطة بين المعلنين والجرائد، ثم تنازع الشركة اليهودية هذا العمل؟ وحينئذ على جميع جرائدنا أن تتحول من الشركة اليهودية إلى الشركة الوطنية المصرية الخالصة.

لا بد أن يتسرع بعض القراء إلى الاعتراض على هذا المشروع الوطني بأنه إذا برز إلى حيز الفعل انقطع اليهود عن الإعلان في الجرائد بواسطة هذه الشركة الوطنية. فلينقطعوا إذا كانت الجرائد لا تقبل وساطة الشركة اليهودية بتاتاً ولا تقبل إلا وساطة الشركة الوطنية. لا يستطيعون أن يقاطعوا الصحف لئلا تستأثر المتاجر والمصالح الوطنية بالدعاية وحدها فتروج هذه وتكسب تلك، لا يستغنون عن الدعاية والإعلانات، وليس لهم إلا الصحف الوطنية ووساطة الشركة الوطنية.

المشروع لا يحتاج إلا لقليل من الوطنية:

1 - يتصدى له متمولون قليلون، قد يتراءى لهم في أول الأمر محتاجاً إلى شيء من التضحية، ولكنه متى استتب رأوا أنه نتج بلا تضحية.

2 - على جميع الجرائد أن تتحول إلى وساطة الشركة الوطنية للحصول على الإعلانات. والشركة تخدمهم كما تخدمهم تلك.

3 - على التجار الوطنيين وأصحاب الأعمال أن يقبلوا على هذه الشركة في الدعاية لهم بالإعلانات وغيرها.

فأين الوطنية وأين الوطنيون، ينقذون الدعاية العربية من براثن الصهيونية؟ لماذا لا تسعى نقابة الصحفيين هذا السعي.

أن الصهيونيين عازمون على استعباد الشرق العربي كله ولسوف ينجحون إذا لم تنهض لمناهضتهم في الحال.

نقولا الحداد

مجلة المنار المؤلف محمد رشيد رضا
ملك اليهود وهيكلهم ومسيحهم والمسيح الحق

تطور الاعتقاد بألوهية المسيح

ملاحظات: (( مجلة المنار - المجلد [ 30 ] الجزء [ 7 ] ص 546 شعبان 1348 - يناير 1929 ))




ملك اليهود وهيكلهم ومسيحهم والمسيح الحق


( خلاصة تاريخية دينية في مُلك إسرائيل ومسيحهم، وحكم النصرانية والإسلام فيهم، وما ورد في ذلك من أنباء النبيين، ننشرها إيضاحًا لما كتبناه في مسألة الصهيونية وثورة فلسطين )

كان إسرائيل - وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - يعيش هو وأولاده في براري فلسطين، ولما مكَّن الله تعالى لولده يوسف في أرض مصر جذبهم إليها، فكثروا فيها حتى صاروا شعبًا كبيرًا؛ ولكنهم ظلوا محافظين على نسبهم ومقوماتهم، فسامهم الفراعنة في مصر سوء العذاب، واضطهدوهم أشد الاضطهاد، ولم يقووا على سحقهم، ولا على إدغامهم في قومهم، حتى أرسل الله تعالى فيهم نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنجّاهم بما أيده به من الآيات من ظلم آل فرعون، ورباهم في التيه أربعين سنة رأوا فيها من آيات الله ما لم يره غيرهم من الشعوب، وقاسى موسى في سياستهم من العناد واللدد، والإدلال والصلف، ما يقضي التاريخ منه العجب، حتى إن التوراة وصفتهم عن وحي الله تعالى بالشعب الصلب الغليظ الرقبة.

وكان استذلال الفراعنة لهم قد سلبهم الشجاعة والبأس، فجبنوا عن دخول الأرض المقدسة إذ كان لابد من قتال أهلها الجبارين، فقضى التيه على أولئك الجبناء الأذلاء، ونشأ فيه جيل جديد قوي الأبدان، قوي الجنان والإيمان، فقاتل أهل البلاد المقدسة التي خرج من مصر ليتبوأها، فكتب الله له النصر عليهم فغلبهم على وطنهم ليديل للتوحيد من الشرك، وللعدل من الظلم، وللفضيلة من الرذيلة، وكان له هنالك تاريخ مجيد: أنبياء وملهمون، وقضاة عادلون، وملوك معمرون { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ( الأعراف: 159 ).

ثم دب إليه الفساد فعبد الأوثان، وفسق عن أمر الديّان، وكفر بنعم الرحمن، وقتل الأنبياء، وظلم الأبرياء، فسلط الله عليه الأمم القوية فانتقمت منه أشد الانتقام: ثلت عرشه وخرَّبت عاصمة ملكه ( أورشليم ) وهدمت بيت الرب المعروف بهيكل سليمان المرة بعد المرة، وسلبت ما كان فيه من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، التي ضاعف قيمتها ما فيها من لطيف الصنعة، والأثارة الدينية والتاريخية للملة والأمة، وسَبَتْ النساء والرجال والأطفال وأجلتهم عن الديار، وكان هذا تربية بالشدة والذلة، بعد أن أبطرتهم تربية النعمة والعزة، ثم رحمهم الله تعالى فعطف قلب مَلِك بابل عليهم فأعادهم إلى وطنهم، وأذن لهم بإعادة هيكلهم، وإقامة ما حفظوا من شريعته وشريعتهم، كما قال تعالى: { وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ( الأعراف: 168 ) حتى إذا ما استمرءوا مرعى النعمة، وأنسوا من أنفسهم القوة عادوا إلى طغيانهم وبغيهم، فعاد نزول العقاب الإلهي عليهم. وما زالوا كذلك حتى أحاط غضب الله تعالى بهم، وقضى القضاء الأخير بزوال ملكهم، وتسجيل الذل الدائم عليهم بجعلهم تابعين لغيرهم، كما أنذرهم أنبياؤهم وقص الله ذلك في آخر كتبه السماوية الإنجيل فالقرآن على لسان آخر رسله عيسى فمحمد عليهما الصلاة والسلام قال الله عز وجل: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوا كَبِيرا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدا مَّفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرا } ( الآيات: 4- 8 ) سورة بني إسرائيل أو الإسراء.

أفسدوا أولا بعبادة الأوثان والظلم فسلط عليهم البابليين الوثنيين فجاسوا خلال مملكتهم وجعلوها تابعة لهم تؤدي إليهم الخراج، وكان ذلك في القرن السابع قبل المسيح، ثم أعاد لهم الكرة وأمدهم بالمال والقوة فأفسدوا المرة الثانية، فأعاد انتقامه منهم، وهو المراد بوعد الآخرة، ثم عطف عليهم بالرحمة، منذرًا لهم بأنهم إن عادوا إلى الفساد عاد إلى النقمة، فعادوا فسلط الله عليهم الرومان الوثنيين المصريين وغير المصريين، فالمسيحيين، فالمسلمين.

كانت أولى تلك النكبات الكبرى نكبة بختنصر ملك بابل في سنة 586 قبل الميلاد بعد عصيان اليهود عليه وكانوا خاضعين لملكه، فأثخن في جيشهم فكان يقطع أجساد العسكر إربًا إربًا وسمل عيني ملكهم، وأرسله إلى بابل ودمر المدينة المقدسة ( أورشليم ) والهيكل وأحرقهما بالنار ( وكان في الهيكل تابوت العهد وفيه توراة موسى بخطه وألواح العهد ) وقتل جميع أهلها إلا قليلا منهم أرسلهم إلى بلاده عبيدًا.

ولما عاد بعضهم من السبي إلى بلادهم سنة 535 قبل الميلاد بأمر ملك بابل شرعوا في إعادة بناء الهيكل بمساعدة أهل الجوار، فلم يتيسر لهم فتركوه سنة 522، ثم عادوا إليه سنة 519 وأتموه سنة 515 قبل الميلاد، وحسنت حالهم بعد السبي إذ كان خير تربية لهم فمقتوا عبادة الأوثان، ثم أحسن معاملتهم الإسكندر المقدوني، وفي أيامه خلصوا من سلطة الفرس، ثم وقعوا بعده تحت سلطان مصر تارة، وسلطان سورية أخرى، ولم يكن المصريون يعرضون لهم بشيء من أمور دينهم؛ ولكن بطليموس الرابع غضب عليهم فأهانهم، ودخل قدس الأقداس في هيكلهم فنجسه وأهان الدين فيه سنة 217، فدخلوا في حماية ملك سورية باختيارهم فرارًا من ظلمه، وكانوا متقلبي الأحوال مع هؤلاء الحكام المجاورين حتى إذا ما استولى الرومان على هذه البلاد كلها كانت بلاد اليهودية ولاية رومانية، فظلمهم الروم أيضا ظلمًا شديدًا لا يُطاق.

ولما عجزوا عن حمل أعباء الظلم يئسوا من الحياة وخرجوا على الروم مستبسلين طالبين للاستقلال، وذلك في سنة 66 بعد الميلاد فضيَّق الروم عليهم الخناق، وكانت البطشة الكبرى خاتمة هذا القتال إذ استولى ( تيطوس ) على أورشليم سنة 70 وتبرها تتبيرًا، وتركها أكوامًا من الرماد السود وأحرق الهيكل مع المدينة، ولم يُبق من تلك الأبنية الفخمة شيئًا إلا بعض أبراج السور تركها مراصد للجيش الروماني، وذلك بعد حصار خمسة أشهر يقال إنه هلك في أثنائه ألف ألف نفس ومائة ألف نفس، واسترق الباقي من اليهود، فهاجر كثير منهم إلى إيطالية وجرمانية من أوربة واستوطنوها، وزال استقلال اليهود السياسي من الأرض فلم يقم لهم بعد ذلك ملك مستقل، وقطَّعهم الله في أقطار الأرض كما أوعدهم على ألسنة أنبيائه الذين يؤمنون بهم والذين كفروا بهم، أي من داود إلى عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.

إنما تم عز القوم وبلغوا ذروة المجد في المُلك على عهد داود و سليمان عليها السلام، وكانا نبيين مؤيدين بوحي الله وتوفيقه، وكان داود عليه السلام رجل حرب وهو الذي فتح مدينة الرب ( القدس ) ووطد دعائم الملك، وبعد استوائه عليها جمع الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من أدوات البناء لأجل بناء بيت للرب تقام فيه شعائر الدين، فأوحى الله تعالى إليه - كما في تاريخهم المقدس - بأن بيت عبادته لا يبنيه رجل سفك دماء عباده؛ وإنما الذي يبني بيته هو ابنه وخليفته سليمان، وكذلك كان، ذلك بأن الله لا يحب الفساد ولا سفك الدماء ولا يأذن بالقتال لرسله وعباده المؤمنين إلا لضرورة الدفاع عن الحق والعدل، والإدالة لهما من البغي والظلم، كما قال في كتابه العزيز: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } ( البقرة: 251 ) وكما قال في تعليل إذنه لنبينا ﷺ وأصحابه: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } ( الحج: 39-41 ).

وكان داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء يوصون بني إسرائيل بإقامة شريعة موسى ووصاياه، ويقيدون كل وعود الرب لهم بالأرض المقدسة والملك فيها - وهم غرباء عنها - بإقامة هذه الوصايا كلها وينذرونهم فقد كل شيء بإخلالهم بشيء منها وفاقًا واتباعًا لما جاءهم به موسى عليه السلام عن الله تعالى كما ترى في الفصل ( 27 - 32 من سفر التثنية خاتمة التوراة ) ومن تلك النذر بعد النذر واللعنات التي تقشعر منها الجلود قوله بعده ( 28: 63 وكما فرح الرب ليحسن إليكم ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها 64 ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها ) وتكررت هذه الوصية والنذر التي علق الرب عليها إطالة أيام شعب إسرائيل في الأرض التي وعدهم إياها أو عدم إطالتها، فهو - تعالى عن الظلم والمحاباة - لم يهبهم إياها لذواتهم ولا لنسبهم، بل لإقامة الحق والعدل فيها فكانت هبة مشروطة بشرط فسلبت بفقده.

وفي الفصل التاسع من سفر الملوك الأول أن الرب تراءى لسليمان بعد أن أتم بناء بيت الرب ( الهيكل ) ووعده بأنه إذا سلك كما سلك أبوه داود بسلامة القلب والاستقامة وعمل بجميع الوصايا وحفظ جميع الفرائض والأحكام؛ فإنه يجعل كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد كما وعد أباه داود، وأنذره انتقامه منهم إذا كانوا ينقلبون هم أو أبناؤهم ولا يحفظون وصاياه وفرائضه، ويذهبون فيعبدون آلهة أخرى قال ( 7 فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت الذي قدسته لاسمي - أي الهيكل - أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلا وهزأة في جميع الشعوب 8 وهذا البيت يكون عبرة )... إلخ، وأعاد هذا بعينه في الفصل السابع من سفر الأيام الثاني، ومثله في أسفار أشهر أنبيائهم، وكذلك كان، ومرت على ذلك القرون بعد القرون، وهم لا يزالون يزعمون أن أرض فلسطين ملك لهم بوعد ربهم، فهم يحفظون وعده وينسون شرطه ولا يحفظون وعيده، وهو الصادق في وعده ووعيده، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود بل يجوز، فهم لا حق لهم في هذه البلاد لا بنصوص كتبهم ووعد ربهم ولا بعرف سائر الشرائع وقوانين الأمم.

ومن أغرب أحوال هذا الشعب أنه استحوذ عليه الغرور والعجب بكتبه وأنبيائه ورسله حتى صار يحتقر جميع البشر، بل حتى صار يرى نفسه فوق الأنبياء والكتب التي لولاها ولولاهم لم يكن شيئًا مذكورًا، فقد خالف عقائد التوراة وأحكامها ووصاياها ونُذُرها وتهديدها، ووصايا سائر أنبيائهم ونُذُرهم، وقد حل به ما أنذروه من العقاب والشقاء المرة بعد المرة، حتى قضي عليه القضاء الأخير الذي لا مرد له، وإننا نفصل ذلك بعض التفصيل.

إن القوم أَلِفوا الشرك وعبادة الأوثان في مصر فأخرجهم الله تعالى منها ليعبدوه وحده مع نبيه موسى عليه السلام، خرجوا وجاوزوا معه البحر فرارًا من فرعون وقومه بعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا { فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ( الأعراف: 138 ) ولما ذهب موسى لمناجاة ربه في الجبل اتخذوا العجل الذهبي وعبدوه حتى عاد وحرَّقه ( سحقه بالمبرد ) ونسفه في اليم نسفًا، ثم إن سلائلهم الذين نشأوا في حجر التوحيد والمعجزات لما رأوا ما عليه أهل البلاد التي أعطاهم الله إياها ونصرهم على أهلها ليقيموا التوحيد مقام الشرك - أعجبهم عبادتهم للأوثان فعبدوها مثلهم وبنوا مذابح لصنمهم ( بعل ) وبعد أن ضعفت عبادة بعل وغيره في زمن صموئيل وداود عليهما السلام عادت في أيام سليمان حتى جاء في سفر الملوك الأول ( 11: 4 ) أن سليمان نفسه مال وراء الآلهة الغريبة، وكان لنسائه مذابح وثنية خاصة؛ لأنهن كن وثنيات ( برأه الله مما قالوا ) ولما انقسمت المملكة بعده إلى مملكتين - ليهوذا وإسرائيل - كان تاريخها جهادًا مستمرًّا بين عبادة الله وعبادة الأصنام، حتى قيل: إنه لم يكن في زمن إيليا النبي في جميع إسرائيل من لم يسجد لبعل إلا بضعة آلاف!

بشارة الأنبياء بالمسيح والنبي

كان أنبياء بني إسرائيل ينذرونهم سخط الله عليهم وعقابه على كفرهم وتركهم لوصاياه، وكذلك كانوا يبشرونهم برفع عذابه عنهم إذا تابوا من ذنبهم، وأنابوا إلى ربهم، ومما بشروهم به أنه تعالى سيرسل فيهم مسيحًا ملكًا يجمع شملهم، ويعيد لمملكة صهيون مجدها، وأنه سيبعث نبيًّا رسولا من بني إخوتهم ( أي العرب ) كموسى - أي صاحب شريعة وسيف 1 - يجدد ملة إبراهيم وينصر التوحيد وأهله على الشرك وأهله، فكانوا ينتظرون مسيحًا مبشَّرًا به يعبرون عنه ( بالمسيح ) معرَّفًا، ونبيًّا مبشرًّا به يتناقلون خبره معرَّفًا أيضا، وفي آخر نبوة ملاخي آخر أنبيائهم قبل المسيح أن الرب سيرسل إليهم ( إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف ) وإيليا عندهم هو إلياس عليه السلام وكان قد خفي عليهم ما آل إليه أمره.

فكان اليهود ينتظرون إيليا والمسيح والنبي، ففي إنجيل يوحنا أنه لما ظهر يوحنا أي الذي يلقبونه المعمدان ( هو يحيى عليه السلام ) أرسل إليه اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين ليسألوه من هو؟ فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا، أإيليا أنت؟ قال: لا، آلنبي أنت؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت لنجيب الذين أرسلونا؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي ( 1: 9 - 23 ).

أما إيليا فلم يأت؛ ولكن النصارى يقولون: إن الوعد بمجيئه رمزي وقد حصل، وأما المسيح فقد ظهر مؤيدًا بالآيات البينات فكذَّبه أكثرهم وطعنوا في والدته الطاهرة، وحاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى من خيار أنبيائهم، فنجاه الله تعالى منهم واشتبه أمره عليهم وعلى غيرهم، وكذلك النبي الأعظم ( محمد ﷺ ) الذي بشر به أشهر أنبيائهم وفاقًا لبشارة التوراة، ومن أوضحها بشارة إنجيل عيسى عليه السلام في كثير من الآيات والأمثال التي ظهر مصداقها فيه دون غيره، جاء مؤيدًا بالكتاب العزيز الذي هو آية في نفسه، متضمنه للآيات الكثيرة في نظمه وأسلوبه وأخباره وعلومه وتشريعه، فكذبوه كما كذَّبوا عيسى وقاتلوه بعد أن حاولوا قتله اغتيالا كدأبهم في قتل الأنبياء من قبله، فنصره الله عليهم وفاقًا لأخبار التوراة والنبوات أيضا [ تراجع نصوص البشارات التي أشرنا إليها في تفسير قوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ } ( الأعراف: 157 ) في الجزء التاسع من تفسيرنا ( ص ج 9 ) ].

ذلك بأنهم صاروا قومًا ماديين لا يهمهم من أمر الحياة إلا الغنى والملك، فلما رأوا أن المسيح ليس هو الملك الذي يطلبونه كذبوه ورأوا أن ما ذكره الأنبياء عن ( مسيا ) من الملك والسلطان لا تصدق نصوصه بحملها عليه، إذ كان يقول: إن مُلكه ليس من هذا العالم. وإنما يريدون مُلكًا من هذا العالم، كما هو ظاهر بشارات داود و أرميا وزكريا وغيرهم، ولولا الآيات الباهرة التي أيَّد الله بها عيسى عليه السلام لكان تأويل المسيحيين لتلك البشارات مردودًا بالبداهة كما قال السيد جمال الدين في مقام الاحتجاج على بعض النصارى أنهم فصَّلوا من قطع متفرقة من العهد العتيق قميصًا وألبسوه لِيسُوعِهم.

وقد كانت نذره النبوية عليه السلام أوضح من نذر غيره من الأنبياء ومتأخرة عنهم، إذ قال كما في إنجيل متَّى في سياق توبيخ الكتبة والفريسيين ( 23: 37 يا أورشليم يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا 38 هو ذا بيتكم يترك لكم خرابًا ) يعني الهيكل … وقال أيضا ( 24: 1 ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل 2، فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض ) ثم أخبرهم بأنه سيظهر كثيرون كل منهم يدعي أنه هو المسيح ويضلون كثيرين وتكون فتن كثيرة، وتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة... إلخ، ومثله في لوقا ( 121: 5 )... إلخ.

وقد صدق قوله عليه السلام بما فعله تيطس بعد اجتماع الأسباط في أورشليم من تدميرها وإحراق الهيكل ( سنة 70م ) كما تقدم، وصدق أيضا فيما أخبر من قيام المسحاء الكذبة وكان أشهرهم ( ياركوكبة ) الذي قام سنة 135 ب م، فثار معه اليهود فقاتلهم الرومانيون حتى روي أنهم قتلوا منهم نصف مليون أو 600 ألف نفس وخرَّبوا أورشليم وجعلوها مستعمرة رومانية، وبقي آخرهم وهو المسيح الدجال الأكبر الذي يمهدون البلاد له.

وقوله عليه السلام: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا ينقض - يقتضي صدقه أن تيطس لم يُبق من بناء الهيكل شيئًا، وأن الذين يزعمون أنه قد بُني شيء من بعض جدران السور الخارجي له كاذبون، وكل من صدقهم يكون مكذبًا للإنجيل.

وقد كانت أحداث الزمان مؤيدة لقوله عليه السلام وزيادة في إيمان المؤمنين به وأعظمها أن الإمبراطور يوليانس أراد إعادة بناء الهيكل سنة 363 بعد الميلاد، ونشط اليهود في تنفيذ إرادته فلما حفر الفعلة الأساس فاجأتهم براكين جهنمية مزعجة أظلم المكان بما أحدثته من الدخان والغبار، وتكسرت أدوات العمل بما أثار الانفجار من قذائف النار، فولوا الأدبار، ولم يعقبوا بعد ذلك الفرار، وحاول اليهود العمل ثانية فشعروا بقوة خفية تدفعهم بعنف عظيم ذُعروا له فولَّوا مدبرين، وتركوا أدوات العمل يائسين.

ومن ثم اعتقد النصارى أن جميع بشارات أنبياء بني إسرائيل انتهت بظهور المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه لن يعود لليهود ملك مستقل، ولا هيكل تُقام فيه شعائر دينهم المنسوخ، وأن جميع تلك البشارات المخصصة لتلك النذر والتخويفات قد انحصرت بمن اتبع المسيح الحق منهم إذ لا مسيح بعده، وصار أتباعه هم شعب الله الخاص والكافرون به هم أعداء الله.

ثم جاء الإسلام فكان أعظم مظهر لبشارات المسيح ونُذُره من الوجوه التي فهمها أتباعه الأولون قبل البدع والتقاليد التي أيدها ونشرها ونصرها الإمبراطور قسطنطين ومَن بعده، فأورث الله أهله البلاد المقدسة وبنوا مسجد الله المسمى بالأقصى في مكان الهيكل المدمَّر لإقامة عبادة الله تعالى وحده، فلم يصدهم عنه من الموانع الخارقة للعادة التي صدت الإمبراطور يوليانس واليهود؛ لأن الإسلام جاء مصدقًا لموسى وعيسى والنبيين الذين بشَّروا به، لا مكذبًا كاليهود.

ومما أخبر به الله تعالى في كتابه القرآن أنه جعل الذين آمنوا بالمسيح واتبعوه فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة، وأنه ضرب على اليهود الذلة بفقد المُلك إلى يوم القيامة، ومما أخبر به خاتم النبيين ﷺ أنه سيظهر دجالون يكون آخرهم الدجال الأكبر الذي يدعي أنه هو المسيح الموعود به فيتخذه اليهود ملكًا يحاربون تحت رايته في البلاد المقدسة، وأن الله تعالى يُظهر المسلمين عليهم فيقتلونهم تقتيلا، ويُظهر المسيح الحق بما شاء الله فيقضي على المسيح الدجال، وتظهر لجميع الأمم حقية الإسلام وبعد ذلك تقوم الساعة العامة الكبرى كما أنبأ القرآن، دون ما ينتظر الأقوام.

ونتيجة ما تقدم كله أن اليهود الصهيونيين والمؤيدين لهم من المغرورين يحاولون نقض عقائد المسلمين والنصارى، وتكذيب عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وهم زهاء نصف البشر في الأرض وأصحاب الملك والملك في الشرق والغرب، وكان من أعظم أسباب غرورهم تمكنهم من استخدام عظمى الدول المسيحية في الأرض على التمهيد لهذا التكذيب وهي الدولة البريطانية.

إننا نعلم أن الإنكليز استخدموا اليهود لإضعاف العرب بإيجاد عدو لهم في بلادهم يقطعون صلة بعضها ببعض، ويشغلون كلا منها بالآخر متكلا على الإنكليز، وأقل فائدة لهم في ذلك أن يحولوا مقاومة العرب لاحتلالهم بلادهم إلى اليهود، كدأبهم الذي ضربنا له مثل السيل يقذف جلمودًا بجلمود؛ وإنما عجبنا من سكوت الدول والأمم المسيحية لهم على إيواء أعداء المسيح إلى بلده، وهو يستلزم تكذيب نذره.

وأعجب من ذلك أن دسائس اليهود تمكنت من إغواء كثير من نصارى أوربة وأمريكة وإقناعهم بأن الإيمان بالكتاب المقدس يقتضي مساعدتهم على العودة إلى فلسطين وامتلاك أورشليم... إلخ، تصديقًا للأنبياء وتحقيقًا لظهور المسيح الذي يختلف الفريقان في شخصه وعمله، فاليهود يعنون مسيحهم الملك الدنيوي الذي يعيد ملك سليمان لهم، والنصارى يعنون المسيح عيسى بن مريم الذي يجيء في ملكوته ليدين العالم.

وقد بلغ الهوس بجمعية تلاميذ التوراة أن نشرت في سنة 1920 كتابًا عنوانه ( ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبدًا ) ملخصه أن نبوات العهدين القديم والجديد تفسر بأن استعمار اليهود الصهيونيين لفلسطين تمهيد لتفسيرها كلها بإقامة ( مملكة مسيا ) على حساب نظام اليوبيل اليهودي وأن هذا الأمر يتم سنة 1925، فيقوم الأموات من قبورهم ويرجع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقدماء الأنبياء المؤمنين إلى أورشليم، ويتم الأمر فلا يموت بعد هذا أحد!!

وسننشر بعض نصوص هذا الهوس المسيحي الذي كذَّبه الزمان بعد خمس سنين من نشره؛ وإنما غرضنا هنا التنبيه لهذه الدسائس اليهودية والأوهام الدينية، وإعلام الإنكليز بأن حكومتهم قد فتحت باب فتنة دينية دنيوية تكون عاقبتها شرًّا عليهم وعلى البشر عامة مما يظنون ويقدرون، فاتفاق العرب مع الذين يريدون سلب وطنهم وتقطيع روابط أمتهم، والجناية على دينهم ودنياهم - ضرب من المحال وأنه لا علاج لهذه الفتنة إلا القضاء على هذه المطامع، وقد أعذر من أنذر.


هامش

 

في الفصل 18 من سفر تثنية الاشتراع يقول موسى (ع م) للشعب (17 قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا (18) أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيتكلم بكل ما أوصيه به) ولم يُقم الرب من بعد موسى نبيًّا مثله صاحب شريعة مستقلة غير محمد ﷺ، فجميع أنبيائهم كانوا تابعين لشريعته حتى عيسى عليه وعليهم السلام؛ وإنما نسخ الله تعالى على لسان عيسى قليلا من أحكام التوراة (وفي الفصل 33 منه جاء الرب من سينا وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران) وفاران مكة كما يعلم من سفر التكوين 21: 21 إذ يقول في إسماعيل (21 واسكن في برية فاران).



 


 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. كتاب : التدوين في أخبار قزوين المؤلف : الرافعي إسماعيل بن أحمد بن الحسين المذكر القزويني

    ج2. كتاب : التدوين في أخبار قزوين المؤلف : الرافعي إسماعيل بن أحمد بن الحسين المذكر القزويني ،   روى أبو العباس الناطفي عن أحمد بن ي...